المقال منشور في مجلة الحميدية، ع 7، ص 56- 61، بتاريخ: أيلول/ 2016م، الموافق: ذو القعدة- ذو الحجة/ 1437هـ:
نسمع كثيراً في فترات الانحطاط عبارة “تطوير الخطاب الديني”، ويعني بها قائلوها “الخطاب الإسلامي على وجه التحديد”، والحقيقة أنها من العبارات اللامعة التي هي صحيحة وجميلة في مظهرها الخارجي، لكنها تطبق بطريقة غربية خالصة، فأصبح كل من يتكلم بتقعير وبهرجة مُجَدِّداً، ولو كان جاهلاً يفتي بغير علم أو يحرف في دين الله.
فالذي يطور الخطاب الديني دون أن ينشر العلم الشرعي، ودون أن يرفع المستوى العلمي الشرعي في المجتمع، فهو كمن يقوم بتركيب هيكل سيارة مرسيدس على سيارة سوزوكي أو ربما يركبه على حمار. وقد وصف الله هذا النوع من المظاهر البراقة الكاذبة بقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5].
هل نحتاج لتطوير الخطاب الإسلامي؟
يجب أن نفهم ما يعنونه بجملة “تطوير الخطاب الديني” فقد تعودنا أن يضع لنا الغرب وعملاؤه في المنطقة مصطلحات ظاهرها جميل، لكنها في حقيقتها غامضة، ويمكن أن تفهمها على عدة معاني متناقضة أحياناً، ثم يقوم هو بتشغيل آلته الإعلامية لتوجيهها بالمضمون الذي يريده هو.
فإذا كان يقصد بذلك مسخ الفكر الإسلامي، وتبديله عبر الزمن بشكل تدريجي، ثم تحريفه وتمييعه وتذويبه، فهذا أمر مرفوض بشكل كامل.
وإذا كان يقصد بذلك العبث بالمصطلحات والمفردات والكلمات الواردة في النصوص، وتفسيرها بالمعاني المعاصرة الحديثة بما يخالف المعنى الذي نزل به القرآن، فهذا أيضاً مرفوض؛ لأنهم بذلك لم يحرفوا الكلام وحرفوا المعنى، وهذا في المحصلة تحريف للنصوص.
وإذا كانوا يقصدون بذلك تفسير النص القرآني بالعقل البشري وترك التفسير النبوي، فهذا أيضاً مرفوض؛ لأن هؤلاء قرآنيون يريدون رد السنة وإبطالها.
وإذا كانوا يريدون تفسير النصوص بما يوافق مصالحهم الشخصية الدنيوية، ويتركون المصلحة العامة الأخروية للمسلمين، فهذا أيضاً مرفوض؛ لأنه سيحول الإسلام إلى لعبة بأيدي هؤلاء الحداثيين المتأسلمين.
ما نحتاجه لتطوير الخطاب الإسلامي:
نحن بحاجة لأمرين في تطوير الخطاب الإسلامي:
الأمر الأول الذي نحتاجه هو: خطاب علمي دقيق مستنبط من النصوص، ويغطي الوقائع الكثيرة المستجدة والمعقدة في زماننا.
ولسنا بحاجة لخطابات إنشائية عائمة لا نفهم منها شيئاً، ولا يستطيع الناس تطبيقها لغموضها. كما أننا لسنا بحاجة لخطابات تصدر أحكاماً عامة تشمل كل المسائل الحادثة المتعارضة، فيقع الناس في الخطأ والاضطراب بسبب هذه الخطابات، فيتهمون الشريعة بالقصور لجهلهم، بدلاً من اتهام هؤلاء الرؤوس الجهال الذي أفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا. كما أننا لسنا بحاجة لخطاب يعرض صاحبه آراءه واجتهاداته وأفكاره على أنها الإسلام، فيقدم عقله هو على النصوص، فيخرج الناس من دينها باسم تحديث وتطوير الإسلام، فيتبع الناس أهواءه فيضل ويُضل أيضاً كسابقه.
نحن بحاجة لخطاب علمي يفهم النص ويفهم الواقع، وبالتالي يفسر النص تفسيراً علمياً صحيحاً ودقيقاً، ولسنا بحاجة لشخص جاهل بالفلك يفسر الآيات بتخاريف لا تصح؛ لا عقلاً ولا شرعاً.
الأمر الثاني الذي نحتاجه هو: تطوير وسائل عرض الخطاب الشرعي، فهناك يوتيوب ومواقع تواصل اجتماعي ومواقع مهنية ومدونات وقنوات فضائية ومذياع، كما يوجد سيارات لزيارة الناس في أماكن تجمعهم وتعليمهم ودعوتهم.
ومن المنطلقات السابقة نلاحظ خطورة استخدام عبارة “الخطاب الديني” التي يطلقها إعلام الطابور الخامس ويقلدهم فيها الحداثيون؛ فليس في ديننا خطاب ديني، ولكنه خطاب شرعي علمي دقيق مثل عبارات ونصوص القانون.
الخطاب الإسلامي في مواجهة التمييع الغربي:
دأبت دوائر الغرب السياسية والثقافية وحتى والاستخباراتية على طرح مفاهيمها الخاصة لإصلاح الإسلام ديناً وفكراً!!
الغرب الذي لا يأتينا منه إلا كل فساد وإفساد وخراب وتخريب يبذل كل جهده في إصلاح الخطاب الإسلامي، فماذا أصلح الغرب ليصلح لنا الإسلام؟!!
نحن في زمان الهامبرغر والبيتزا والناكيتز.. نحن في زمان الوجبات السريعة.. وفي العلم نحن على نفس الحال.. نحن في زمان الوجبات الفكرية السريعة.. بدءاً من الكتيب، وانتهاء بالتويتات على التويتر!!
يقرأ أحدهم كتيباً صغيراً في الحافلة أو القطار ويبني منه كل تصوراته وأفكاره ومعتقداته، ثم يهاجم كل مخالفيه على أساس أنهم خارجون على الشريعة التي بناها هو في رأسه. بل يحضر دورة شرعية يتعلم فيها كتيب الأصول الثلاثة، وكتيب نواقض الإسلام العشرة، فيدخل الناس في الإسلام بثلاثة طرق، ويخرج عموم الأمة الإسلامية من الإسلام بعشرة طرق، وهو يجهل كل ما كُتِبَ في العقائد والفقه والتفسير والحديث.
ويتابع شخصاً أعجب بأفكاره على التويتر، فيصبح هذا الإنسان الذي يتابعه ربه الذي يعبده في كل أفكاره وآرائه، حتى يصبح كالقالب والنسخة المكررة من هذا الإنسان، فيدافع عنه في الباطل، ويتعامل مع آرائه كنصوص وشرائع!!
وفي كل هذه النماذج؛ بدءاً من الهامبرغر، ومروراً بالكتيبات، وانتهاءً بالشخصية اللامعة الجذابة، نجد كيف أن آلة الطابور الخامس الإعلامية هي التي تنفخ هذه النماذج المقزمة ليتم عرض الإسلام من خلالها، فيحقق العدو من خلالهم عدة أهداف بضربة واحدة: تحريف الإسلام، وإبراز صورة محرفة عن الإسلام تنفر الناس منه، وطرح إسلام بنكهة غربية خاصة.
كيف نطور خطاباتنا ونضبطها في ذات الوقت؟
نحن بحاجة في خطاباتنا لأمور ثلاثة:
الأول: مزيد من العلم كما ذكرت ذلك من قبل.
الثاني: سعة الصدر وتقبل المخالفين مهما أساؤوا لك، حتى تصل إلى تفتيح عقولهم وزيادة وعيهم وانفتاحهم.
الثالث: استغلال ذات الوسيلة التي يستخدمها عدونا، وهي زخم كبير من الأفكار الصحيحة الصغيرة على وسائل التواصل، وعلى شكل خطي متدرج فكرة بعد فكرة، حتى تصبح الحقيقة راسخة عند الناس.
الخطاب بين الإسلام العلماني والإسلام العلمي:
يروج بعض المفكرين والدعاة لإسلام جديد يسمونه الإسلام العلماني، ويطرحونه كصورة توافقية وسطية، فأصبح لدينا مسلم حداثي، ومسلم ليبرالي، ومسلم علماني، ومسلم كثوليك، ومسلم أرثوذكس..
كثرة أنواع المسلمين بسبب بعدهم عن العلم الشرعي وانتشار الجهل، فكل إنسان يخطر في ذهنه رأي شاذ وهو مستلقٍ على سريره، فيكتبه في النت حتى يرد عليه الناس ويكتسب الشهرة بإفساد دينه ودين الناس..
كثرة أنواع المسلمين بسبب اتجاههم في أبواب الهوى والغواية والتعنت والعناد والإعجاب بالنفس والرأي..
أما الإسلام فهو إسلام واحد فقط لا غير، من عهد إبراهيم عليه السلام: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78]..
وعندما يرد مصطلح “الإسلام العلماني” فأول ما يجادلك به أنصار هذا المصطلح هو التجربة الإسلامية التركية، ومرونتها وتوافقها مع الإسلام العصري، فهي في نظرهم علمانية يحكمها مسلمون، وهي تطبق نظريتهم!!
وهذه التجربة يجب النظر إليها من جهتين:
الجهة الأولى: المسلمون على هذه الأرض، فيجب علينا أن نوجههم إلى الله وننطلق مع انطلاقتهم، ولا نحملهم ما لا يطيقون فينفرون من الإسلام، وفي النهاية هم شعب مسلم لن يطلب غير شرع الله. والتدرج في التطبيق لا يعني تغيير الأحكام الإسلامية، فالأحكام الشرعية الواجبة التي تأخر تطبيقها لم يصبح تركها مباحاً، ولم تصبح محرمة، فقوانين التحلل والانحلال المرحلية الموروثة من العهود السابقة ليست شيئاً ثابتاً للأبد ليعلق عليه الحداثيون والعلمانيون حكمهم بأن التحلل والانحلال الذي يحلمون به هو نظرية ثابتة دائمة في “الدولة العلمانية الإسلامية” كما يسمونها.
الجهة الثانية هي غير المسلمين، فهل أجبر الإسلام غير المسلمين على التحاكم للشريعة الإسلامية من قبل ليجبرهم عليه اليوم؟!!
ففي الإسلام لا نحكم بين غير المسلمين إلا إذا جاؤونا متحاكمين.
أما الحرية التي كفلها الإسلام للمسلم وغير المسلم من العهد المدني النبوي فهي لا تعني أن دولة المدينة التي أنشأها النبي صلى الله عليه وسلم كانت علمانية إسلامية. لكنها تعني أن الإنسان حر في أن يشرب الخمر في بيته دون الإضرار بالمجتمع والجيران حتى يتفتت كبده، وهو حر في أن يزني في بيته حتى يصيبه الإيدز، ولا يجوز لنا شرعاً أن نهتك ستر أحد، ولا أن نتتبع عورات الناس. ثم حسابهم على الله.
لكن من واجبنا أن نحذرهم من المضار الدنيوية عليهم في اقتراف الفواحش، وكذا نحذرهم من العواقب الأخروية لارتكابها، ومن واجبنا أن نعاقب من يخدش حياء المجتمع بارتكاب الفواحش علناً.
في المقابل عندما يستلم العلمانيون السلطة في أي دولة نجدهم يحاربون الإسلام والفكر الإسلامي ويمنعون التعليم الشرعي كأنه مخدرات أو أسلحة، بينما يعملون هم على ترويج المخدرات ونشر الرشوة والربا والكسب غير المشروع. فهل هذا التسلط والدكتاتورية التي يقوم بها هؤلاء من الإسلام العلماني كما يسمونه؟!!
الفقه الإسلامي المعاصر:
الفقه الإسلامي المعاصر ظهر استجابة للقضايا الطارئة، وما أكثرها في زماننا. فإذا كان عن علم فهو صحيح، وهو يمثل حقيقة الخطاب الإسلامي المعاصر الذي يتماشى مع العصر.
أما إن كان عن جهل بالشرع أو جهل بالعلوم العصرية فهو هذيان جهال لا يجوز نسبته للإسلام.
الفقه المعاصر يعتمد على جانبين:
الجانب الأول هو جانب شرعي، ويتكون من جمع لكل النصوص المتعلقة بالمسألة، وفهم دقيق لها.
الجانب الثاني هو جانب علمي معاصر، وهو فهم كل جزئيات المسألة العلمية المعاصرة.
ومن ثَمَّ يكون تنزيل حكم النص على الواقعة المعاصرة.
وفي غياب أحد هذين الجانبين يكون الحكم هذيان جهال، وفي حال ضعف أحد الجانبين تضعف النتيجة والحكم الشرعي.
وأحياناً بحجة التجديد يتم تحميل النصوص الشرعية أكثر مما تتحمل، كالإسقاطات الفلكية وسرعة الضوء وما شابه ذلك على القرآن، وتفسير بعض الآيات به.
وهذه الإسقاطات ليست تفسيراً، وليس تجديداً في النص ولا في الخطاب؛ لأن هذه الوقائع والحقائق العلمية موجودة في الخليقة منذ نشأتها، وإنما هي مجرد مطابقة بين تلك الحقائق الكونية والنصوص، فهي لا توضح معاني الآيات، بقدر ما تظهر إعجاز القرآن، وأنه صادر عن خالق هذه الحقائق الكونية، فهو تجديد لعقولنا وليس تجديداً لفهم النص.
وفي هذا المجال يجب التنبه إلى أنه يوجد علم مقطوع به فيجوز تفسير القرآن به، ويوجد علم ظني فنحن نقويه بالنصوص القرآنية ولا نفسر القرآن بعلم ظني، ويوجد نظريات يستحيل القطع بصحة شيء منها، فهذه لا تتقوى بالقرآن ولا يفسر بها القرآن، وإنما هي اجتهادات شخصية خاصة بقائلها.
أثر الاجتهاد في تطوير الخطاب الإسلامي:
العبارة الشائعة في هذا المجال هي: “فتح باب الاجتهاد”. والسؤال المناسب لهذه العبارة هو: وهل أُغلق باب الاجتهاد لنفتحه؟!
لم يُغْلَق باب الاجتهاد في هذه الأمة يوماً على مر العصور، لنتكلم عن فتحه. وكل ما في الأمر هو ما أصابه من التضييق في عصور الانحطاط، والتي منها ما قام به أبواق الغرب في العالم الإسلامي في زماننا، والذين وقفوا في وجه الآراء الفقهية والعلمية التي تهز من أركان فراعينهم.
نعم؛ يمكننا القول: إن الاجتهاد المطلق قد أغلق؛ لأنه غير منطقي، فيستحيل على إنسان أن يحيط بعناوين المسائل الفرعية فقط، فكيف بأحكامها وأدلتها؟!! فقد وصلت المسائل إلى ملايين المسائل الشرعية مع تشعب الحياة وتعقيدها في زماننا.
فنجد بعض الناس يدعو لفتح باب الاجتهاد، ويعني به الاجتهاد المطلق، وهو عملياً يعني نفسه تحديداً، فهو يريد أن يتكلم في كل شيء ويفتي في كل شيء عن جهل مطبق، ويومئ بدعوى حقه في الاجتهاد إلى إسكات كل من يعترض على سفاهاته وجهالاته وتجرئه على أحكام الشريعة…
أما اجتهاد المسألة فلم يتم إغلاقه ويستحيل إغلاقه، وهو أساس تطوير الخطاب الإسلامي علمياً، وهو الذي يتحقق به التكامل بين أفراد العلماء كلٌ في اختصاصه، والأمة تخطو بثبات في هذا المسار. فإذا اكتملت مسيرتنا، ووصلنا إلى المستوى الفكري والعلمي الذي يمكننا من قيادة الدنيا وعمارتها، فسييسر الله لهؤلاء العلماء قيادة العالم.
وما كان الله ليسلمنا قيادة البشرية على ضعفنا وتقصيرنا، فنفسد في الأرض من حيث نظن أنفسنا أننا نعمرها، ونشوه صورة ديننا بنشر صور علمية وفكرية مشوهة عن الإسلام.
ولن نعز إلا عندما يكون الإسلام وفكره ومناهجه أعز علينا من أنفسنا، فنعز نحن بعزه، ولا يعز هو بعزنا؛ ليتحقق ما روي عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الإِسْلامَ، وَذُلاًّ يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ” [مسند أحمد].