كانت وظيفة الجيش سابقاً قاصرة على عمل انقلابات بين الحين والآخر للحفاظ على مبادئ الجمهورية، وكانت يشارك أحياناً في عمليات عسكرية ضخمة في شرق تركيا ضد الـPKK. لكن هذا تغير فيما بعد، وأصبحت تركيا تتحرك بناء على المصلحة الاستراتيجية للدولة التركية. فقوة الدفاع داخل أي دولة تشترك فيه ثلاثة محاور أساسية: التصنيع العسكري، والخطيط العسكري، وسياسة الدولة (قرار الحرب والسلم). أما السياسة فستكون لها حلقة خاصة بها.
في الفقرة الأولى سأستعرض وضع التصنيع العسكري، نظراً لأنه قد سبق الحديث عن التصنيع عموماً في حلقة سابقة، وقد سبق بيان أن التصنيع العسكري يشغل المقدار الأكبر من عمليات التصنيع ضمن الخطة التركية الحالية، ثم سأتناول في الفقرات التالية موضوع التخطيط العسكري والمقدرة العسكرية التركية:
- سبق الكلام عن تاريخ تطور التصنيع التركي عموماً. وسيكون الكلام هنا عن أنواع المنتجات التركية الموجودة حالياً، والنقلة التي يمكن أن تحققها في المستقبل:
- تركيا تنتج حالياً بنادقها وجميع التجهيزات الشخصية لمقاتليها.
- تركيا تنتج حالياً أنظمتها الدفاعية من الفئة المتوسطة، كالرادرات والمضادات الأرضية للطائرات.
- قطعت شوطاً جيداً في تصنيع الأنظمة الدفاعية من الفئة المتقدمة، وحصلت على التقنيات اللازمة للأنظمة التي لم يكتمل تصنيعها بعد، كأنظمة الدفاع الجوي الصاروخي مثلاً.
- أصبحت تركيا دولة منافسة في مجال تصنيع الدرونات الهجومية، ومع أنها من الفئة المتوسطة، إلا أنها تعطي قوة متطورة استراتيجية للجيش، فتكلفتها قليلة نسبياً، وليس فيها خسائر بشرية، وهي مفيدة جداً في تعلم تقنيات تصنيع الطائرات، أي الصناعات الهجومية الجوية من الفئة المتقدمة.
- تنتج تركيا حالياً الدبابات والمدرعات وجميع المعدات الهجومية البرية من الفئة المتقدمة.
- في القطاع البحري أصبحت قادرة على صناعة الفرقاطات والغواصات، وتقوم حالياً بصناعة حاملة الطائرات.
- أصبحت تركيا قادرة على تصنيع جميع التجهيزات الرئيسية المستخدمة في التصنيع الهجومي الجوي من الفئة المتقدمة، كمحركات الطائرات، وراداراتها.
- يمكن لتركيا أن تحقق نقلة نوعية إذا فعلت ما يلي:
- الاستمرار في السياسة الحالية في مجال التصنيع العسكري.
- إذا استطاعت تصنيع تجهيزات عسكرية كاملة بتقنية لا تحتاج للعنصر البشري بداخلها.
- إذا صنعت أجهزة تشويش عسكرية من الأقمار الصناعية.
- امتلاك تقنيات جديدة تمنع تشويش العدو على التجهيزات التركية، كأن تكون تقنيات الإشارة متطورة مختلفة عن الإشارات التقليدية.
- احتكار التقنيات الخاصة بها، وبيع السلاح دون التقنية للحلفاء الاستراتيجيين.
- لم تكن تركيا قادرة على أعمال قتالية خارج الحدود، وأول عمل لها خارج الحدود كان في قبرص عام 1974م، وكان بقرار من نائب رئيس الوزراء نجم الدين أربكان بعد اجتماع سريع مع الحكومة وقادة الجيش، مستغلاً بذلك غياب رئيس الوزراء بولنت أجاويد في زيارة لبريطانيا، فرجع رئيس الوزراء فوراً وأوقف العملية فوراً قبل اكتمال أهدافها.
- ثم قامت تركيا بعمليات عِدَّة في الشمال العراقي ابتداء من عام 1992م، وأصبحت تهاجم وتلاحق الـPKK خارج حدودها، بدلاً من الدفاع عن نفسها ضد الهجمات التي تنطلق من الأراضي العراقية، وبعد فشل الانقلاب التركي (2016م) بدأت تركيا عمليات في الشمال السوري ضد داعش والجناح السوري للـPKK، ولا تزال مستمرة حتى الآن. بالإضافة لعمليات مع الناتو في أفغانستان والبوسنة وكوسوفو وغيرها، وتشارك في قوات دولية في جنوب لبنان والبحرين.
- بعد فشل الانقلاب التركي أصبح لتركيا قواعد عسكرية في عدد من الدول حول العالم: قطر (2016م)، الصومال (2017م)، جيبوتي (2017م)، ليبيا (2019م)، النيجر (2020م). وهذا يعني أن مهمة الجيش أصبحت حقيقة خارج الحدود للدفاع عنها من الخارج، حتى لا يتضرر البلد بأي حروب أو انقلابات داخله.
- أصبح الجيش التركي يرافق آليات التنقيب عن النفط والغاز في البحر الأسود وشرق البحر المتوسط.
- أصبحت تركيا قادرة على إدارة معارك لصالح دول أخرى دون التدخل المباشر في الأعمال العسكرية، ودون تحمل التبعات القانونية لذلك، كالعمليات في ليبيا وأذربيجان على سبيل المثال، وهذا تطور نوعي في مجال السياسة العسكرية، وفي مجال إدارة العمليات.
- الظاهر من الاستخبارات العسكرية أنها مقتصرة على الاستخبارات في ساحات العمليات العسكرية فقط، وهذا بحاجة لإتقان موظفي الاستخبارات للغات الأجنبية للبلد الذي تحصل فيه العملية؛ لأن الاعتماد على المترجمين يوقع الجيش التركي في مآزق حقيقية.
- الاستخبارات العسكرية خارج نطاق مسرح العمليات هي سرية، فلا يمكن لأحد أن يعلم بها، لكن تركيا بحاجة لعمليات تجنيد واستخبارات في المؤسسات العسكرية حول العالم، لتستطيع الحصول على التقنيات من الدول المحتكرة أو التي لا تفي بالتزاماتها كاملة، وهذا إن حصل فسيشكل نقلة نوعية لتركيا في جميع المجالات العسكرية: التصنيع العسكري والتخطيط العسكري والسياسة العسكرية.
- في مجال التخطيط العسكري يمكن ملاحظة ذلك في العمليات التالية:
- عمليات الشمال السوري ضد الـPKK أظهرت نجاحاً فائقاً، فقد كانت الدول الغربية التي وافقت على الدخول التركي تظن أن تركيا ستهجم بقوة على قلب الهدف، وبذلك ستوقع الميليشيات المعادية خسائر كبيرة في الجانب التركي في الأرواح والعتاد، مما سيضطر تركيا للانسحاب تحت تأثير الضغط الشعبي الداخلي، لكن الجيش التركي تأخر في الهجوم وقام بمسح شامل للمنطقة -حتى أن الدول الغربية أصبحت تطالب تركيا بإنهاء العملية بسرعة وإلا ستبدأ بمعارضتها-، ثم تقوم الطائرات بدون طيار بضربات مركزة جداً تستنزف العدو، ثم تراقب عمليات الإمداد والتموين ونقل الضحايا مدة من الزمن، ثم تقوم بضربات مركزة بعيدة عن المواقع السابقة، وهكذا حتى كشفت كل مراكز العدو، ثم أصبحت تزحف بطريقة دبيب النمل وتسيطر على كامل المنطقة المستهدفة قطعة قطعة دون أي خسائر في المدنيين.
- في العمليات ضد داعش في الشمال السوري اضطرت تركيا لتسريع العمليات العسكرية بسبب بدء داعش بتسليم مناطقها للنظام!!! مما أدى لوقوع ضحايا بين المدنيين بسبب قيام داعش بصناعة المفخخات داخل الأحياء السكنية، وتلغيم بيوت المدنيين، وهو ما لم تفعله في مناطق النظام!!!
- في أذربيجان تولت تركيا عمليات التدريب والتخطيط، بالإضافة إلى الإدارة غير المباشرة، وهي نقلة نوعية في مجال التخطيط العسكري كما سبق.
- يمكن أن تحقق تركيا نقلة نوعية في المجال التخطيط العسكري إذا استطاعت زيادة الموالين لها من السكان الأصليين في المناطق التي تريد القيام بعمليات عسكرية فيها، فهذا يسهل فهم المنطقة بشكل أكبر، ويضمن وجود اختراق قوي داخل القطاعات العسكرية المعادية، ويضمن اختيار الخطة المناسبة ونوع السلاح المناسب وتقليل الضحايا من المدنيين.
- التخطيط العسكري السليم، والعتاد العسكري القوي يحتاجان لسياسة ذات دهاء عالي لتحقق أهدافها كاملة، وهذا ستكون له حلقة خاصة به بإذنه تعالى.
هذا والله أعلم. وفيما يلي روابط المقالات الأخرى:
- مستقبل تركيا (1): التركيب السكاني…
- مستقبل تركيا (2): الاستخبارات…
- مستقبل تركيا (٣): الإعلام…
- مستقبل تركيا (٤): الصناعة…
- مستقبل تركيا (5): الدفاع…