تصور الناس في العالم العربي عن الاستخبارات والأمن مختلف تماماً عن علم الاستخبارات والأمن في الدول المتقدمة، وفيما يلي دراسة لتطور نظام عمل جهاز الاستخبارات التركي:
- يجب أن ندرك أن أجهزة الاستخبارات في كل العالم لها دور كبير في إدارة الدول سياسياً وعسكرياً، ونرى ذلك واضحاً في انتخابات الدول الكبرى كروسيا وأمريكا، ويظهر بوضوح في انتخاب ترامب، ثم في زواله لصالح بايدن.
- ربما لم يكن يحتلف في بدايات عمله عن أي جهاز أمن في دول العالم الثالث، فقد كان استقرار البلاد مرتبط تماماً باستقرار الحزب الحاكم، وكل من يقف في وجه الحزب الحاكم فمصيره الإعدام، وجهاز الاستخبارات يعمل بناء على هذا المبدأ الوحيد.
- حصلت بعد ذلك تطورات جعلت تركيا مختلفة ومميزة عن باقي دول العالم الثالث، ونتج عن ذلك اختلاف في نظام عمل الاستخبارات:
- الاستقرار في تركيا مرتبط بقيم ومبادئ الجمهورية التركية، بينما في باقي دول العالم الثالث هي مرتبطة بذات الحزب الحاكم.
- توجد انتخابات في تركيا، بينما الانتخابات شكلية في كثير من دول العالم الثالث.
- يوجد تيار داخل الجيش حريص على بقاء الحياة المدنية في تركيا لضمان الاستقرار والعلاقات الدولية، بينما في باقي دول العالم الثالث إذا وصل الجيش إلى السلطة فيستحيل أن يقتنع بحاجة المجتمع للحياة المدنية.
 
- كان نظام عمل الاستخبارات المدنية والعسكرية في تركيا يعمل بناء على المنطلقات السابقة!! أي: يوجد تياران داخل نظام الاستخبارات: تيار يقف مع الانقلابات العسكرية كلما حصل تعدي على مبادئ الجمهوري كما كان يفكر بها الأتراك في ذلك الوقت، وتيار آخر يعمل على تقليل الخسائر البشرية عقب كل انقلاب، وإعادة الحياة المدنية والسياسية والحزبية من جديد.
- بالتزام مع ذلك كانت هناك تيارات حزبية وسياسية داخل جهاز الاستخبارات، وهذه التيارات بعضها محلص لوطنه، وبعضها يتبع لأجندات خارجية، وبالتالي -وعلى سبيل المثال- كانت بعض أجنحة الاستخبارات تسلح متمردي الـPKK وتحرضهم على الانفصال، وفي ذات الوقت يقوم الجيش بمحاربتهم في معارك دامية يذهب ضحيتها الآلاف من الطرفين، والمستفيد من إشعال الحروب الداخلية هم المافيات وتجار الحروب. وهو شبيه جداً بما تقوم به أمريكا خارج حدودها لتشغيل مصانع السلاح لديها ولبيع مخزونها القديم من السلاح، أما في تركيا فقد كان يحصل داخل الحدود.
- في عهد تورغت أوزال المخضرم بين الحكمين العسكري والسياسي حصلت عملية تنظيف كبيرة وجذرية لأجهزة الشرطة، ويمكن أن نقول أنها عملية تنظيف كبيرة -وإن لم تكن جذرية- في جهاز الاستخبارات من العناصر الفاسدة، وتم استبدالهم بعناصر مخلصة، وحيادية حسب الظاهر، فهي لا تتبع لأي تيار ديني أو قومي أو أتاتوركي ظاهر…
- عملية التنظيف كان لها آثار كثيرة، وفيما يلي بعضها:
- زادت من قوة تيار الاستخبارات الذي يسعى للمحافظة على الحياة المدنية والسياسية في تركيا، وكان تدخله قوياً في هذا الاتجاه، وبعد أن كانت الانقلابات التركية كل عشر سنوات تقريباً أصبحت كل 20 سنة تقريباً، وفي النهاية كان لها دور كبير وقوي في إفشال انقلاب 15/تموز/2016م.
- تركز جهد الاستخبارات على تنظيف تركيا من المافيات، أو تحويل نشاط المافيات -على أقل تقدير- باتجاه خارج الحدود، بل واستثمارها أحياناً لخدمة أهداف الدولة التركية.
- تقليل مقدار الاختراقات داخل جسد الدولة التركية حتى الحد الأدنى.
 
- المرحلة التالية التي وصل إليها جهاز الاستخبارات أدى لمنع عدد من العمليات الإرهابية التي كانت تخطط لها دول أخرى داخل تركيا بسبب علم الاستخبارات بها قبل حدوثها، وساعد على قيام عمليات مشتركة بين الحكومة والاستخبارات خارج الحدود، كالقبض على مطلوبين خارج البلاد، واستدراج آخرين، وما شابه ذلك.
- يمكن أن تحقق تركيا نقلة نوعية في مجال عمل الاستخبارات إذا حولتها إلى جهازين:
- جهاز استخبارات داخلي أشبه بالـFBI، يكون مسؤولاً عن الأمن الداخلي للبلاد، ولا يتدخل في الشؤون الخارجية، ويتلقى من الجهاز الآخر الخارجي المعلومات التي لها تأثير على عمله فقط لا غير.
- جهاز استخبارات خارجي لا يتدخل بالشأن الداخلي إلا فيما يتعلق بعمله.
 
- هذه الخطوة سينتج عنها قوة عالية في قطاع الاستخبارات الخارجية، كعمليات مستقلة عن القرار السياسي، وتجنيد عملاء في الخارج بمقدار أكبر من السابق بكثير، وعلى مستويات سياسية وعسكرية أعلى، والوصول إلى مراكز نفوذ في القرار السياسي في دول أخرى، وتحديد مصير معارك وحروب خارج الحدود دون التدخل المباشر ودون تحمل الدولة للمسؤولية السياسية. ولعل مسلسل تشكيلات الذي يعرضه التلفزيون التركي هو أحد مقدمات ذلك.
هذا والله أعلم. وفيما يلي روابط المقالات الأخرى:
- مستقبل تركيا (1): التركيب السكاني…
- مستقبل تركيا (2): الاستخبارات…
- مستقبل تركيا (٣): الإعلام…
- مستقبل تركيا (٤): الصناعة…
- مستقبل تركيا (5): الدفاع…
- .
