يحرم شرعاً أخذ العلوم الشرعية عن المجاهيل

المقال منشور في موقع رابطة العلماء السوريين الخميس بتاريخ 18/ محرم/ 1438هـ – 20/ أكتوبر/ 2016م:

شاعت في زماننا بدعة لم تحصل طوال التاريخ الإسلامي إلا في دول الباطنية فقط لا غير، وهي أخذ الفتاوى الشرعية والفقهية عن المجاهيل.
وهذه بدعة محرمة شرعاً ما أنزل الله بها من شيء، وفيما يلي مجموعة من الأدلة على ذلك:

  1. قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، فأورد أعيانهم بالاسم، ثم أثبت عدالتهم، ثم أمر باتباعهم.
  2. قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، فكيف نأخذ العلم عمن ليس لنا علم بعلمه وعدالته؟!!
  3. قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، فقد أمرت الآية بالإعراض عن الجاهلين، ومن لا نعلم علمه وعدالته وعمن أخذ علمه فهو جاهل حتى يثبت العكس، والمجهول لا نعلم فيه شيئاً من ذلك.
  4. عند تنزيل الفتاوى المعاصرة على الوقائع فإن شطرها متعلق بالواقع، والأصل فيمن ينقل الوقائع التي فيها اتهام أو طعن أو ما شابه ذلك أن الناقل فاسق حتى يثبت قوله في الواقعة، فقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، فكيف نأخذ بقوله في الطعن بغيره أو القدح به ونحن لا نعلم عدالته؟!! فهو مجروح، فلا يُقْبَلُ جرحه لغيره من الناس.
  5. قال تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} [النساء: 176]، فيحرم أن نأخذ ديننا وعلوم ديننا إلا عن الله أو رسوله أو من تيقنا أنه أخذ عنهما، بل يجب أن نتيقن أنه أخذ عنهما العلم والديانة معاً، وأخذه لإحداهما عنهما لا تكفي، فلا نأخذ العلم مثلاً عن المنافقين في زماننا كعلي جمعه ومن هو على شاكلته، مهما بلغ من العلم، ولا نأخذ العلم عن رجل صالح متعبد لا يحمل علماً، إذ لم يقل بهذا أحد، بل فرقت النصوص بين العابد والعالم. كيف نأخذ من مجهول العلم والعدالة؟!!
  6. قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43، الأنبياء: 7]. فحدد من يجب سؤاله بأهل الذكر، وكيف نعرف أنه من أهل الذكر وهو مجهول؟! بل زاد على ذلك أنه لم يحدد كونه من أهل العلم، وإنما قال: {أَهْلَ الذِّكْرِ}.
  7. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ» [ابن حبان وأبو نعيم والبيهقي]، فكيف نعلم تحقق هذا الوصف فيه وهو مجهول لا نعلم كبر سنه ولا كبر علمه ولا كبر قدره؟!!
  8. ورد ذكر حالنا في هذا الزمان في سنن أبي داود عن معاذ بن جبل، وهو له حكم المرفوع، فأصبح كل إنسان يفتح القرآن ويستشهد به ويستدل به، وتنعدم آلة القياس والاستيثاق من صحة الفتوى والاستدال، فقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضي الله عنه يَوْمًا: “إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ فِتَنًا يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ، وَيُفْتَحُ فِيهَا الْقُرْآنُ، حَتَّى يَأْخُذَهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ، وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ، فَيُوشِكُ قَائِلٌ أَنْ يَقُولَ: مَا لِلنَّاسِ لاَ يَتَّبِعُونِى وَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ، مَا هُمْ بِمُتَّبِعِىَّ حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ، فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ، فَإِنَّ مَا ابْتُدِعَ ضَلاَلَةٌ، وَأُحَذِّرُكُمْ زَيْغَةَ الْحَكِيمِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلاَلَةِ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ، وَقَدْ يَقُولُ الْمُنَافِقُ: كَلِمَةَ الْحَقِّ.
    قَالَ الراوي: قُلْتُ لِمُعَاذٍ: مَا يُدْرِينِى رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ الْحَكِيمَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلاَلَةِ؟ وَأَنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ؟
    قَالَ: “بَلَى؛ اجْتَنِبْ مِنْ كَلاَمِ الْحَكِيمِ الْمُشْتَهِرَاتِ، الَّتِى يُقَالُ لَهَا: مَا هَذِهِ؟!! وَلاَ يُثْنِيَنَّكَ ذَلِكَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ أَنْ يُرَاجِعَ. وَتَلَقَّ الْحَقَّ إِذَا سَمِعْتَهُ فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا”.
    فكيف نتبع إنساناً ونأخذ بفتواه ونحن لا نعلم إيمانه من نفاقه؟!!
  9. عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: “لا يزال الناس بخير ما أخذوا عن أكابرهم، فإذا أخذوا العلم عن صغارهم وشرارهم هلكوا”.
  10. عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: “دينَك دينَك.. دمك ولحمك.. فخذ عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذي مالوا”. فكيف نعلم ذلك تحقق في المجاهيل.
  11. أخرج مسلم عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: “إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ”، وبنحوه قال مالك بن أنس وغيرهما كما نقل الإمام النووي.
  12. لما وقعت الفتنة صاروا يسألون عن الرجال، كما ذكر ابن سيرين: “قلنا: سموا لنا رجالكم”. وأي فتنة أعظم مما نحن فيه؟!! ففي زماننا رد فتاوى هؤلاء المجاهيل أولى.
  13. قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: “أوَ كلما جاءنا رجل أجدل من رجل؛ تركنا ما علمنا من سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم لقوله؟!”. فليس لغط المجاهيل حجة على دين ربنا.
  14. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: “ولا يُتَعَلَّم إلا ممن كَمُلَت أهليته، وظهرت ديانته، وتحققت معرفته، واشتهرت صيانته”.
  15. لم تَخْرُج جماعةٌ من المجاهيل عبر التاريخ الإسلامي كله إلا تبين لاحقاً أنهم من الباطنية والعياذ بالله تعالى، وهي التي اصطلح على تسميتها اليوم أجهزة المخابرات؛ سواء المحلية أم العالمية.
  16. كثرة أتباع المجاهيل من الجهال في زماننا ليست تزكية لهؤلاء المجاهيل، فقد تبع خلقٌ كثيرٌ الفرقَ الباطنيةَ قديماً، حتى أنهم انتهكوا حرمة الحرم في موسم الحج، وسرقوا الحجر الأسود!! فلا تغتروا بكثرة أتباعهم من الجهال اليوم؛ فما هذا إلا لعموم الجهل في زماننا.
  17. لا نقبل حديث نبينا صلى الله عليه وسلم إذا رواه لنا مجهول الاسم، ونضعف الحديث إذا رواه مجهول الحفظ أو العدالة، فكيف نأخذ الفقه والأحكام عن مجهول العدالة والعلم.
  18. يجوز للعلماء شرعاً قراءة فتاوى المجاهيل للنظر في صحتها وما فيها من تلبيس ولنقضها، كما يجوز لهم تعلم السحر لإبطاله دون الوقوع في محضوراته. لكن عوام الناس يحرم عليهم مطلقاً قراءة فتاوى المجاهيل أو العمل بها – ولو كانت صحيحة -، إذ كيف للجاهل أن يحكم على الفتوى بالصحة أو الخطأ وهو لا يعلم دقائق المسائل، بل ولا يعلم عدالة المفتي المجهول ولا علمه وأين تعلم؟!!

يتأكد هذا الحكم في زماننا الذي أصبح يتصدر فيه للفتوى ضباط المخابرات (بأسمائهم الصريحة أو بأسمائهم المستعارة)، والزنادقة، والفساق، والجهلة، وهواة الفتوى المثقفين الذين قرؤوا بضعة كتب، والتجار والنساء ممن لم يتعلموا علوم الشريعة، وعامة الناس في صفحات التواصل. وأصبح كل إنسان يُفْتِي في غير اختصاصه، وهذا جرح له يمنع من أخذ الفتوى عنه، وذلك في عدم احتياطه في الفتوى.
ولا يبيح الفتوى لكل هؤلاء إلا جاهل أو خائن لله ورسوله، فكيف إذا كان أحد هؤلاء مجهولاً لا نعلم دينه (عميل استخبارات أو رجل صالح)، ولا نعلم علمه (تعلم العلوم والفنون بأصولها، أم هاوٍ، أم جاهل دخيل على العلم).
ولم يأت المبطلون من المجاهيل من الحجج لتأييد فتاويهم التي يلقونها بين الناس إلا بثلاثة أدلة لا يصح الاستدلال بها:

  1. قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس: 20]، وهذا الاستدلال باطل من وجهين:
    • هذا في الأصل الوحيد الذي هو الإيمان بالله وعبادته دون سواه، وهذا نأخذ فيه بما قاله الأعرابي الذي لا نعرفه، ويفهمه كل إنسان ويستطيع أن يتلقاه وأن يتأكد من صحته وسلامة حجته: “البَعرةُ تدل على البعير، والأثَر يدل على المسير، ليل داجٍ، ونهار ساجٍ، وسماء ذات أبراج، أفلا تدل على الصانع الخبير؟!”.
      وهذا يغاير الأحكام الفقهية التفصيلية الجزئية التي لا يفهمها كل الناس، بل لا يدركها إلا خواص خواص العلماء.
    • هذا المجهول لا يأمر الناس باتباعه أو اتباع فتواه، ولكنه يأمر الناس باتباع الأنبياء والمرسلين وأخذ العلم عنهم، وهؤلاء ليسوا مجاهيل، فالاستدلال بالآية على جواز الأخذ عن المجاهيل باطل نصاً ومضموناً.
  2. حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن الشيطان عندما كان يأتيه وهو يحفظ مال الزكاة، وفي آخره: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ. قَالَ: “مَا هِيَ؟”. قُلْتُ: قَالَ لِي: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }، وَقَالَ لِي لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ. تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟” قَالَ: لَا. قَالَ: “ذَاكَ شَيْطَانٌ” [البخاري]. فيقولون: إذا جاز أخذ الحق من الشيطان، فكيف لا يجوز أخذه من المجاهيل؟!!
    أما نحن فنأخذ بتصديق نبينا صلى الله عليه وسلم لكلام الشيطان بقوله: “صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ”، والضالون يأخذون بكلام الشيطان، ويكتفون به!! عدا عن أن نبينا صلى الله عليه وسلم صدقه على علم عنده صلى الله عليه وسلم أخذه عن الله، ولم يأخذ هذا العلم من الشيطان كما يفعل طلاب المجاهيل وتلامذتهم!! وأكد ذلك بوصفه أنه “كَذُوبٌ” لا يجوز الأخذ عنه، ونزيد على ذلك استنباط: أنه يحتمل أن الفاسد يقول الحق أحياناً ليلبس على الناس لاحقاً.
  3. قولهم: “نقرأ في الكتب ونسمع من الأشخاص، وما كان من حقٍ أخذناه، وما كان من باطلٍ رددناه”. وهذه مقولة قالها مجهول، ولم يقل بها أحد من العلماء ولم يعملوا بها. وأما ما ينقلونه عن المتأخرين في هذا، فإننا لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لأقوال الرجال المعاصرين والقدماء، عدا عن أن ندعها لأقوال المجاهيل.

والله أعلم،
ونسأل الله أن يعافينا ممن يلبسون على الناس دينهم…

اكتب رداً