شجاعة المعركة الإعلامية ودورها في دحر انقلاب تركيا

ترك بريس 16/ يوليو/ 2016م

كثيرًا ما يتعلق الناس بالقوة المادية المجردة، والتي يحصرونها في القوة العسكرية، فيغفلون عن قوة الكلمة، وقوة الإعلام النزيه، وقوة الحق عندما يجأر…

ظهر ذلك واضحًا ليلة أمس التي كانت حافلة وحاسمة في ذات الوقت، ولعب فيها الإعلام الدور الأبرز في المعركة الحقيقية بين الشعب والانقلابيين…

الرسالة الأولى: نبتت البذرة من الخطاب المصور على الهاتف المحمول الذي وجهه الرئيس أردوغان لشعبه، فتواصل الرئيس مع شعبه فيه رسالة واضحة أن خبر اغتيال الرئيس أو احتجازه بعد الهجوم على الفندق كانت مجرد شائعة. فهذه الفكرة بغض النظر عن مضمون الخطاب كان لها تأثير مزدوج على الطرفين: الشعب الذي ارتفعت معنوياته كثيرًا بوجود القيادة التي يمكن الالتفاف حولها، والانقلابيون الذين أدركوا أن الرئيس لا يزال يدير البلاد، وأن التعليمات الجزئية التي تصلهم من رؤسائهم فيها احتمال كبير من الكذب والتزوير، وبالتالي ربما يتركهم قادتهم الكاذبون في مواجهة مصيرهم منفردين ويهربون!!!

الرسالة الثانية: جاءت في المضمون حيث وجه الشعب لما ينبغي فعله، وما إن سمع الشعب الرسالة حتى نفذ التعليمات بدقة متناهية، ليثبت أن الشعب لا ينقصه إلا حاكم موثوق عادل وعدل حتى يلتف حوله ويبذل الغالي والرخيص للوصول إلى الهدف المشترك.

الرسالة الثالثة: حمل الشعب مسؤولياته في أنهم لا يدافعون عنه، ولكنهم انتخبوه، فمن حقهم أن يدافعوا عن هذا الحق بكل ما أوتوا من قوة. ولا نغفل هنا أن الخطاب كان عن طريق اتصال هاتفي لمنع تحديد موقع الرئيس من خلال دوائر المخابرات الغربية، والتي لن تبخل بدورها في إيصال موقعه للانقلابيين لقصفه!!!

الرسالة الرابعة: كانت في التوقيت، فالوقت الذي وجه فيه الرئيس خطابه كان الانقلاب قد سيطر على أنقرة واسطنبول بشكل كبير، فأكد هو ورئيس الوزراء ووزير الخارجية ووزير الدفاع وعدد من المسؤولين والمستشارين في الحكومة، ليوصلوا رسالة عملية باندحار الانقلاب، فاندحر الانقلاب إعلاميًا قبل اندحاره على أرض الواقع، مما أدى لاندحاره في قلوب الشعب وفي نفسيات العساكر الذين شعروا أنهم أصبحوا بين المطرقة والسندان، دون صدور أي بيان من قبل العسكر يثبت العكس.

الرسالة الخامسة: كل ما سبق رفع معنويات الشعب عمومًا، بل ودفعت المترددين والمتشككين للوقوف مع الحكومة بشكل كامل؛ لاعتقادهم أن الأمر انتهى وأصبح مسألة وقت، وذات الرسالة وصلت للطرف الآخر، وهم عساكر الانقلاب، الذين أصيبوا بإحباط شديد.

الرسالة السادسة: كانت شعبية 100 %، حيث لم توقف الحكومة النت، ولا أغلقت المواقع، لتترك المجال واسعاً للشعب بإدارة المعركة الإعلامية؛ لأنها كانت واثقة أن الشعب سيقف معها، بخلاف ما تقوم به الأنظمة الدكتاتورية من إيقاف وسائل التواصل خوفاً من شعوبها.

الرسالة السابعة: كانت في المضمون الذي قدمه الشعب من خلال هواتفهم التي نقلت وحشية الانقلابيين ضد الشعب، ونقلت تغلب الشعب على الدبابات، وإقناع المجندين بتسليم أنفسهم، مما دفع الانقلابيين للتوجه إلى أحد اتجاهين: اتجاه تحرك نحو مزيد من الوحشية بضرب الطائرات للشعب بالرشاشات الثقيلة، وهذا قام به القطاع الجوي المفصول عن وسائل الإعلام وعن الشعب، ولا يسمع إلا تعليمات قادته بضرب الشعب، مما زاد من تشويه صورة قادة الانقلاب، واتجاه آخر فهم من تلك الرسالة اندحار الانقلاب، وبالتالي لا جدوى من مزيد مناطحة الوهم.

الرسالة الثامنة: كانت في المقطع المصور الذي تم تسريبه لقائد مجموعة انقلابية وهو مكبل اليدين ويأمر عناصره بتسليم أنفسهم.

الرسالة التاسعة: كانت في عدم تأخر الرئيس في التواصل مع شعبه، فقد خرج من فوره إلى مطار أتاتورك مع ما يمثل ذلك من خطورة كبيرة جدًا عليه، فتحمل هذه المخاطرة بشجاعة فائقة النظير ليؤكد الرسائل السابقة مجتمعة، فلا يدخل أدنى شك لقلوب شعبه في أخبرهم به من قبل، مع أن الجيش الانقلابي لا يزال يحيط بالمطار في ذلك الوقت. فاستثمر إعلاميًا الرمزية التي يتمتع بها بشكل كامل، في حين لم تخرج الحكومة (التي تمثل السلطة التنفيذية) على وسائل الإعلام لانشغالها بالخطوات العملية لدحر الانقلاب، فأدت كلا السلطتين دورها على أكمل وجه.

الرسالة العاشرة: استثمار التكتم والسِرِّية التامة التي كان يمارسها الانقلابيون في تشتيت قوتهم والتعامل مع كل قطاع منفصلاً عن الآخر، وذلك بسبب انعدام التواصل بين قطاعات الجيش إلا في القطاعات العليا منه فقط.

الرسالة الحادية عشرة: تكذيب البيان الوحيد الذي حاول الجيش بثه وتفريغه من مضمونه، من خلال إعادة السيطرة على مبنى التلفزيون ونشر ما حصل بداخله.

الرسالة الثانية عشرة: استثمار انعدام التواصل بين قيادات الجيش والعناصر، فتم توصيل رسالة واضحة لعناصر الجيش من خلال عدة مقاطع بأن الشرطة كانت تمارس دور حماية عناصر الجيش من أيدي الشعب الذين يريدون الفتك بهم بسبب هذا الخطأ الفاحش الذي اقترفوه، في مقابل قادتهم الذين لم يصدروا أي بيان وتخلوا عنهم بعد فشل الانقلاب، مع أن الانقلاب لم يكن قد اندحر في تلك اللحظة!!!

الرسالة الثالثة عشرة: المؤتمر الصحفي الذي قام به الرئيس أردوغان، مع ما يشكله ذلك من خطورة في ظل وجود جزء من سلاح الجو بيد الانقلابيين، ويقوم بعمليات قصف للمنشئات الحكومية، فرسخ الفكرة الثابتة في اندحار الانقلاب.

الرسالة الرابعة عشرة: كانت في عدم تحميل كامل الجيش جريرة الشرذمة التي ارتكبت هذه الجريمة النكراء، وتركيز الشرطة على سيادة القانون ووجوب احتراك أفراد الجيش مهما بدر من بعضهم، فبعضهم ربما كان جاهلًا، أو خرج بمعلومات مغلوطة، أو غير ذلك من الذرائع المبررة أو غير المبررة، والتي يحددها القضاء.

الرسالة الخامسة عشرة: الوعي الإعلامي الشعبي الذي فهم أن الإعلام رسالة، وهذه الرسالة تتمثل في نقل الأخبار التي تغير الواقع وتشكل المستقبل وتبنيه نحو الأفضل، لا الأخبار المطابقة للواقع. فلم ينشروا أي معلومة يمكن أن يستفيد منها الانقلابيون.

الرسالة السادسة عشرة: كانت في الاحتفاظ بتصريحات ومنشورات المرجفين والمنافقين والمعادين للوطن والشعب والحرية، سواء كانوا مؤسسات أم أفراداً؛ لتتم محاسبتهم لاحقاً، ولقطع طريق النفاق عليهم بعد أن حذفوا منشوراتهم.

الرسالة السابعة عشرة: والتي لن تكون الأخيرة، وهي ظهور رئيس الوزراء ورئيس الأركان بالوكالة، ليدق الوتد الأخير في نعش الانقلاب، وليثبت حقيقة أن الانقلاب قد اندحر بشكل فعلي وكامل. مما فتح المجال للدول المنافقة – التي اعترفت بانقلاب السيسي من قبل – أن تعبر عن عدم اعترافها بالانقلاب بعد تأكدها الكامل من إخفاقه!! فهل نجح الانقلاب لتعترف أو لا تعترف به، أم هو النفاق للأقوى؟!!

وفي النهاية لا ننسى أن تنظيف وسائل إعلام الطابور الخامس التي قامت بها الحكومة قبل عدة أشهر كان لها دور كبير في تقليم مخالب الانقلابيين، وكان لها دور كبير في الحد من تواصل الانقلابين ببعضهم ومن تواصل القيادة العسكرية بعناصرها.

إن العملية الإعلامية هي عملية متكاملة يجب إتقان كل تفاصيلها، وهو الذي سمح للحكومة الشرعية والشعب الواعي أن ينتصر على الانقلابيين، في مقابل تخلي العالم كاملًا عنهم حتى آخر لحظة، إن لم نقل: إن العالم كله قد وقف ضدهم إعلاميًا.

لنتعلم من ذلك أن الإعلام هو علم بالدرجة الأولى، ثم هو وعي شعبي يحدد مستقبل الشعوب والدول، وهو ما يقتضي منا التحرك فيه بشكل علمي مدروس وموزون كمقدار الملح في الطعام.

ولا نبارك هنا لتركيا ولا للشعب التركي وحده، بل نبارك للأمة الإسلامية هذا النموذج الذي أعاد إلى الأذهان ثورة شعب غزة ليحافظ على مكتسباته في الحرية والحفاظ على الحكومة التي انتخبها أو بايعها أو اختارها؛ سمها ما شئت حسب المرجعية التي تتبع لها.

اكتب رداً