سوريا وتركيا؛ أيهما يشكل عمقاً استراتيجياً للآخر؟!!

المقال منشور في مدونات الجزيرة بتاريخ 23 /11/ 2016م:

بعض المواقف السياسية تتحول إلى تاريخ، ولا يمكن نسيانها، ومنها عندما قال فاروق الشرع وزير خارجية الأسد الدائم لداوود أوغلو عندما كان وزيراً للخارجية: يكفيكم أننا ساكتون عن حقنا في إنطاكيا ولم نحرك القضية في المحافل الدولية. فأجابه داوود أوغلو: أنطاكيا لكم.. حلب لنا.. إسطنبول لكم.. دمشق لنا؛ لا فرق بين الإخوة!!
هذا الجواب الصدمة أسكت فاروق الشرع؛ لأن هذه العبارة تحتاج منه تفكيراً لمدة شهر كامل بجانب البط على حافة نهر بردى!!
وهذه العبارات تستدعي منا التفكير كثيراً: أي الدولتين هي العمق الاستراتيجي للأخرى؟!
هذه العبارة التي تفوه بها داوود أوغلو ليست عبارة طارئة خرجت من فم سياسي، ولكنها عقيدة سياسية تركية راسخة تدل على مجموعة من الأفكار:
1- هذه المنطقة هي كتلة واحدة لا يمكن أن تنقسم.
2- مهما التصقت أيدي المحتل والعميل والخائن بهذه الأرض، فإن خروجه منها هو مسألة وقت لا أكثر، وبالأخص بلاد الشام التي كانت عبر العصور مختلفة في كل شيء دون استثناء.
3- الرغبة في دخول السوق الاستهلاكية الأوروبية ذات الـ 500 مليون نسمة هو لإنفاق الأموال في بناء “درع حلب” كخطوة أولى، ومن ثم تعبيد الطريق أمام سكان البلاد ليشقوا طريقهم إلى عاصمتهم، تبعاً لنشاطهم وإخلاصهم وقوتهم في تحقيق أهدافهم.
هذه هي العقيدة التركية، فهل نظرتنا لقضيتنا ورؤيتنا لأهدافنا واضحة؟!
تبدأ قصتنا قديماً من ولاية حلب التي هي نقطة التماس بين الدولتين؛ هذه الولاية التي تمتد من معرة النعمان جنوباً إلى مرعش شمالاً، ومن ماردين شرقاً إلى أضنه غرباً.
هذه الولاية التي تم تقطيع شرايينها بترسيم الحدود بين الدولتين؛ لأنها كانت تعيش على تجارة طريق الحرير وخط الحجاز والتواصل بين الشمال والجنوب، فتصنيفها على أنها سورية فقط أو تركية فقط هو بمثابة الحكم عليها بالموت، وفعلاً هذا ما حصل!!
ثم زاد عمق الكارثة عندما تحولت سوريا إلى دولة منغلقة على نفسها بسبب دعوات القوميين العرب من جهة ودعوات تركيا الفتاة القومية من طرف آخر، ليصبحوا كالأطفال الذين يتقاتلون على لعبة فيكسرونها تفادياً لوقعها بيد أحدهما، أو كالضرائر اللاتي يتقاتلن فيقتلن زوجهن خشية استئثار إحداهن به، ليبقوا جميعاً في حسرة الترمل، وضيق الحاجة بسبب فقد المعيل، وسجن العقلية الساذجة المنغلقة على نفسها.
وتحولت المنطقة من دولة عالمية إلى دولة أبي فراس الحمداني الطائفي الذي يشغل الناس بأشعاره وإعلامه الساذج، ضمن جوقة من دول الملوك والطوائف، لكنها هذه المرة تحوي سيارات وطائرات مستوردة ترهق التاجر الذي قطعوا باب رزقة ابتداء، ولا تصنع بضائعها، ولا تصدر إلا قطع البسكويت وأصابع الشوكولا!!
لتدخل الدولة السورية في حرب طاحنة أكلت الأخضر واليابس، ومجازر ذهبت بخيرة شبابها، وذهبت بنسائها وأطفالها وشيوخها تحت الأنقاض، وهجرت الملايين في محاولة لتغيير الخريطة السكانية، وحصدت اليوم ما زرعته خلال نصف قرن من تربية التشرذم والتفرق، والبعد عن العمل المؤسساتي، وتغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة. والأسوأ أنها أصبحت ملزمة قانوناً بسداد قيمة القذائف التي نزلت على رؤوسها؛ لأنها قبلت وسكتت لعقود أن يرأسها خائن جزار طائفي.
هذا هو واقع التدهور التاريخي الذي وصلنا فيه إلى القاع؛ إلى مستوى لم يعد هناك أسوأ منه. أمام كل هذه الوقائع الكارثية المُرَّة، نجد أنفسنا أمام عدة تيارات متعارضة في الساحة السورية، وهي على النحو التالي:
1- تيار خطابه اليومي يتكلم عن تحرير روما قبل فتح مكة، ولا يميزون بين الخطة الاستراتيجية عالية السقف، والخطاب الإعلامي الذي لا يصح أن يتجاوز الهدف المرحلي تفادياً للحرب العالمية ضد السنة في المنطقة، ويُكَفِّر من يطلب توحيد الخطاب المرحلي وقصره حالياً بتحرير الأرض، ويُخَوِّنُون من يخالفهم الرأي في طروحاتهم.
2- تيار يؤمن بالقوة العظمى (أمريكا)، وجعلها قبلته، ولا يُصدر أي خطاب، وتقوم أمريكا بتأهيله بشكل هادئ وسري ليحل محل الـpkk السوري بعد أن يؤدي دوره وتُفْنِيه في القضاء على داعش!!
لكن هذا التيار يمر بمرحلة كمون حالياً، وخطة الفدرالية الأمريكية تم إعادتها إلى درجها بعد فشل الانقلاب الأمريكي في تركيا، وأمريكا اليوم مترددة حالياً بين بقاء الـpkk السوري في سوريا لمواجهة الجيش التركي، أو إدخاله إلى تركيا لتغذية الحركة الانفصالية جنوب شرق تركيا وإفناؤه هناك.
3- تيار المصالح والكراسي، وهو تيار يتميز بأنه لا يعلم ماذا يريد بالضبط، ودفعته التطورات الجديدة للشعور بوجود قضية سورية، فضاعف نشاطة عشرة أضعاف، وهو يقوم بجولات مكوكية على أمل أن تراه الحكومة التركية، فلعلها تختاره في لعبة الكراسي في المرحلة القادمة، فهم يدورون حول الكرسي لعل أحدهم يجلس قبل الآخر عند النطق بالصفر، كما في اللعبة المعروفة!!
4- تيار الدراويش الذين يفكرون بالمصلحة العامة أكثر من التفكير بمصالحهم، ويرفضون الخيانة والعمالة للغرب والشرق بحجة أنها لا تمثل عمقاً استراتيجياً لبلدهم، ويرفضون أيضاً العمل تحت مظلة الميليشيات العسكرية أو الفكرية. وربما لا يملكون خطة استراتيجية، لكن لديهم أهداف مرحلية واضحة تحتاج لقوة دولة للنهوض بها.
لكن أتباع هذا التيار لا يصدق عليهم تسميتهم بتيار؛ لأنهم مجموعة أفراد متفرقون هنا وهناك، وبعيدون عن بعضهم جغرافياً، ويَكِدُّون في طلب معاشهم حتى لا يأكلوا من المال العام.
وهنا تتبادر في ذهننا مجموعة من الأسئلة:
من سيجمع هؤلاء؟
وما هو الخيار الاستراتيجي لهؤلاء في التعامل والتعاون الدولي؟
هل هو العمق الاستراتيجي التركي، أم سيبيع هذا التيار مبادئه أيضاً وينصاع تحت الضغط الدولي لخيارات استراتيجية أخرى، وأطواق نجاة شرقية وغربية؟!!
وهل ستتخلى التيارات الأخرى عن مصالحها الخاصة وعن تبعيتها للشرق والغرب وترضى بطالوت الفقير مالكاً؟
وهل ستشارك القاعدة الشعبية في تحديد خيارها بين التيارات الأربعة، أم ستجامل، وتهادن، وتقبل بأي شيء في سبيل التخلص من جحيم الحرب والتشرد؟!!
لنعود مرة أخرى إلى السؤال الذي هو محور هذه التدوينة:
ما هو العمق الاستراتيجي للشعب السوري الذي يفتقد الرُبَّان؟!
وهل سيتوحدوا في تحديد عمقهم الاستراتيجي بعد ست سنوات من التفرق والتشرذم؟!!
وهل سيتمسكوا بخيارهم الاستراتيجي بقوة؟ أم سينشغلوا بعِظَام التصريحات التي يرميها السياسيون للكلاب الدولية، وبأن أكون أنا المدير وهو النائب أم العكس؟!!
وهل سنقبل التواضع لإخوتنا والتعاون معهم، أم سنبقى كبني إسرائيل نفكر بأننا أبناء الله وأحباؤه، وأننا ولِدْنا علماء بكل علوم الإدارة والسياسة (مع عدم وجود تجربة سابقة لنا)، لكن أخطاءنا السابقة وتشرذمنا وتشظينا السابق خلال الثورة كان محض صدفة وحظ سيء؟!!
لننشغل بعبارة “أنا أم أنت” وعبارة “أنا أم هو” عن العمل، ليصل تيار العمالة والخيانة على ظهر الدبابة الروسية أو الأمريكية؛ لأن الدبابة التركية محلية الصنع لم تعجبنا، أو لأنه لا يدري ماذا يريد، ولا يحمل خطة للمرحلة المقبلة!!
هذا تصوري القاصر للوضع الراهن، ومن السهل على صاحب أي تيار من التيارات السابقة أن ينسفه، ولكن نكون له شاكرين إن قدم لنا تصوراً واقعياً أفضل للمرحلة القادمة…
فلا أسهل من تفجير الأفكار، بل وتكفير كل الخيارات المتاحة، فإذا طالبناهم بالحل والعمل للبناء لم نجد منهم أحداً!!

اكتب رداً