خلافة على منهاج النبوة!!!

جريدة الحكم، ع 4

لقد جرى لغط كثير بين الناس بشأن حديث حذيفة رضي الله عنه الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

”تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فيكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم يكون ملكاً جبرياً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة “، ثم سكت [أحمد (273/4)، (30/355) برقم (18406)، والبزار والطبراني في الأوسط برقم (6577)].

فبغض النظر عن المقصود؛ هل هو خلافة عن الله في إمضاء أحكامه وأوامره كما قال العلماء في تفسير قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، أم هو الخلافة والتعاقب بعد الأنبياء في تنفيذ أوامرهم الإلهية.

لكن النتيجة واحدة، وهي تنفيذ شريعة الله وحكمه في الأرض، وهذا هو عين الخلافة.

وهنا تتبادر في أذهاننا مجموعة من الأسئلة، وهي:

* هل هذا خاص بشخص أو حزب بعينه؟!!

أول ما نفهم من الحديث أنها ”خلافة“ على منهاج النبوة، وليست ”خليفةً“ على منهاج النبوة، فهي نظام سياسي متكامل، وليست تسلطاً لشخص على مقدرات الأمة وأفرادها وقراراتهم.

فكلما أمكننا تعميم المشروع على كل البشرية (وليس فقط المسلمين)، وزدناه تخصصاً وكفاءة وإتقاناً، كلما كنا أكثر التزاماً بمقصود المشرّْع سبحانه وتعالى في تعميم الشريعة على جميع مناحي الحياة، وكنا أقرب لمفهوم ”الخلافة“ الوارد في الحديث. فنحن بذلك نجعل جميع البشر خلفاء عن الله وعن الأنبياء وعن بعضهم بعضاً في تطبيق شرع الله في الأرض؛ كلٌ في مجاله واختصاصه وعلمه الدقيق، بشرط أن يكون موافقاً للشرع.

فتصبح البشرية كلها أشبه بآلة ضخمة تسير فيما يرضي الله، لا كما يفعل بعض الأفراد والأحزاب في زماننا من صياغة خلافة تناسب أهواءهم رسموها في أذهانهم، فيكون كل فرد أو حزب كالمسننات المتعاكسة والمتضادة التي يكسر بعضها بعضاً !!!

بل إن احتكار بعض الأحزاب لمفهوم الخلافة وإعلانها الوصاية عليه لا يختلف شيئاً عن احتكار بعض الأفراد له وحصره في شخص الخليفة، فهل حق إقامة شرع الله في الأرض قاصر على هذه الأحزاب دون غيرها من المسلمين حول العالم؟!!

نعم؛ من حق هؤلاء أن يفتوا فيما أتقنوه من أحكام السياسة فيتكاملوا مع غيرهم في بناء هذا النظام، لكن ليس من حقهم أن يحتكروه أو يفرضوا اجتهاداتهم على عموم الأمة وكأنها مسلمات شرعية ثابتة ومسلمة غير قابلة للنقاش أو الجدال.

بل من واجب أفرادهم أن يسكتوا فيما لا علم لهم به من أمور السياسة ومسائلها.

* كيف تطورت هياكل الخلافة عبر العصور؟

سنتعجب كثيراً عندما نرى أن جميع الأنظمة السياسية التي يتفاخر بها الشرق والغرب كانت موجودة على عصر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يمثل حكم النبي صلى الله عليه وسلم نموذج الحكم الفردي؛ نظراً لكونه صلى الله عليه وسلم المشرع بالوحي، ووجد النظام الفدرالي متمثلاً في ولاية معاذ بن جبل رضي الله عنه على اليمن، والتي كانت شبه مستقلة عن حكم المدينة، مع رسم الخطوط العامة لنظام الحكم والقضاء، ووجد أيضاً النظام الكونفدرالي المتمثل في معاهدات التوحد العسكري والدفاع المشترك في عموم الجزيرة العربية بعد تحريرها.

واشتمل ذلك كله على نظام الشورى الفردية أحياناً، ونظام الشورى الجماعية في أحيان أخرى.

هذا من حيث العموم، أما من حيث بنية الدولة وهيكليتها فقد تطورت بإنشاء الدواوين في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه والتي تمثل في زماننا الوزارات، ثم زاد عدد الدواوين عبر العصور مع تعقد الحياة  واتساع المسائل.

بل وزاد عدد الموظفين في الوزارة الواحدة حتى أصبحوا بالآلاف، وتنوعت الاختصاصات، وأصبح من المستحيل إدارة شؤون الناس واحتياجاتهم إلا بذلك.

وهذه كلها هياكل تنظم حياة الناس وكانت موجودة في عصر النبوة والخلافة والملك العاض، وليست نظام خلافة على منهاج النبوة، وليست هي مضمون الخلافة. فتلك الهياكل إن كانت تحكم شرع الله فهي منهاج ونظام خلافة، وإن لم تكن كذلك فهي حكم بغير ما أنزل الله، ولو سميناها: خلافة إسلامية أو دولة إسلامية.

إذا علمنا ذلك؛ فكيف يمكن لإنسان أن يجتزئ كل تلك الهياكل والمؤسسات في شخص الخليفة الذي هو إنسان واحد، وكيف يطيق هذا الإنسان أن يؤدي كل تلك المهام والمسؤوليات ويكون محاسباً عليها أمام الله تعالى يوم القيامة؟!!!

والأنكى من كل ما سبق أن يكون مجهولاً لا يعرفه المسلمون إلا بعد عقد البيعة له!!!

* الخلافة بين الفقه والواقع:

إذا ذكرت لبعض أدعياء الخلافة المزيفة تلك المسلمات السابقة التي أجمع عليها كل علماء الأمة وكل المسلمين عبر العصور دون نكير من أحد، رأيت أولئك الجهال يرجعون إلى كتب الفقهاء بطريقة غريبة ومستهجنة في آن واحد، فيقولون لك:

ألم تقرأ في كتب الفقه شروط الخليفة والخلافة؟!!

نعم قرأت شروط الخليفة ولم أقرأ شروط الخلافة في كتب الفقه؛ لأن الخلافة هي مرجعية لكل مسلم في تحكيم شرع الله في نفسه ومن حوله. ولنا في شريعتنا مُسَلَّمَات يجب أن لا نتركها، وهي كالتالي:

1- الواجب على المسلم أن يكون مستنده الأساس هو النصوص، فكيف تنادون بترك المذاهب الفقهية وتدعون إلى وحدتها، ثم نجدكم هنا تتجرؤون وتفرضون على المسلمين وعلى الناس ما لم يرد به نص شرعي، وما هو من اجتهاداتكم، وليس من اجتهاد الفقهاء على ما سيأتي؟!!

2- إن تحديد الفقهاء لشروط الخليفة لا يعني أن له السلطة المطلقة في كامل الأمة، ولا أن يعلو قراره على قرار الشريعة وأحكامها كما يفعل بعض أدعياء الخلافة في زماننا، ولا أن يطمس على مبدأ الشورى، ولا أن يكفر مخالفيه في الاجتهاد، ولا يجيز له فعل كثير من البدع التي تجرأ عليها الجهال والخوارج في زماننا.

3- تحديد شروط الخليفة تقتضي توفرها في كل العاملين في المناصب والوزارات السيادية في الأمة، ولا تعني إلغاء الدواوين والوزارات وهياكل الدولة وتنظيماتها، فلم يقل بذلك أحد من العلماء المشهود لهم، لا في القديم ولا في الحديث، فهي مجرد هياكل صماء لا أكثر، فإن حشوتها عطراً جنيته، وإن حشوتها نجاسة قطفت ثمار عملك.

4- إقامة بناء هياكل الخلافة على منهاج النبوة يقتضي التفكير في هيكلية سياسية وتنظيمية أعمق وأدق تحقق للخلافة الرسوخ في العالم كبناء سياسي مرن ومحكم في وقت واحد، مع إشباع هذا النظام بالقوانين والتشريعات الإسلامية (جوهر الخلافةومضمونها) التي تضمن استحالة محوه أو تبديله أو مسخه.

5- القيام بالخطوة السابقة يقتضي تعميم فكرة الخلافة ومشروعها على كل الأفراد والأحزاب، وعدم حصره في فرد أو حزب بعينه، فهذا مشروع متجذر ومتغلغل في كل الاختصاصات وفي كل مفاصل المجتمع، ويعجز عن القيام به حزب أو جماعة، عدا عن أن يقوم بتحقيقه فرد بعينه!!!

* ما هي الخلافة على منهاج النبوة؟

بنظرة خاطفة إلى الحديث نرى أن المصطلحات المتوازية التي وردت فيه هي كالتالي: نبوة – خلافة – ملكاً عاضاً – ملكاً جبرياً – ثم أخيراً الخلافة.

وهذا لا يعني الرجوع في شكل الهياكل إلى عهد النبوة!!!

فالذي يقول ذلك كالذي ينادي بترك استخدام السيارات والعودة إلى الجمال، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: ”على منهاج“، ولم يقل: على شكل. فهو يعني الرجوع في الجوهر والمضمون. وهذا يستوجب منا دراسة الفرق بين مصطلح الخلافة والمصطلحات الأخرى في الحديث، وهي كالتالي:

1- الخلافة هي تشريعات إسلامية محددة + هياكل سياسية، بينما الملك بنوعيه يتضمن فقط هياكل سياسية.

2- نفهم من مفهوم المخالفة أن الخلافة هي شورى في اختيار المؤسسة الحاكمة (وليس فقط الحاكم) وفي إصدار الأحكام الاجتهادية معاً؛ لأن الملك العاض يفتقد للشورى في اختيار الحاكم، والملك الجبري يفتقد للشورى في اختيار الحاكم وإصدار الأحكام الاجتهادية معاً.

وأكبر دليل على ذلك تسمية عمر بن عبد العزيز بالخليفة الخامس بعد أن عزل نفسه ثم طلب البيعة بالشورى، فلم يكن من الملك العاض حينئذ. وأبو بكر رضي الله عنه تم اختياره في شورى السقيفة، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه اختير بالعهد دون نكير واحد، فكان كالإجماع السكوتي، ثم تم اختيار عثمان رضي الله عنه من مجلس استشاري يتمتع بأمرين: حصل له القبول من المسلمين دون نكير، ولم يخالف المجلس رغبات المسلمين في اختيار الحاكم. فكان المجلس شرعياً في انعقاده وقراره. ثم تم اختيار علي رضي الله عنه من معظم المسلمين وسكت آخرون، فكان اختيار الأكثرية ملزماً في قراره للأقلية الصامتة، بينما لم تتم البيعة أو الاختيار لمعاوية رضي الله عنه صراحة إلا بعد وفاة علي رضي الله عنه، بل ولم يطالب بها معاوية رضي الله عنه قبل ذلك لذكائه ودهائه، فدعواه كانت قبل ذلك بطلب دم عثمان رضي الله عنه فقط.

فكيف بالخليفة الذي يختاره حزب لا يمثل معشار معشار معشار المسلمين، أو تختاره عصابة من المجاهيل لا نعلم منها واحداً !!!

فأين الخلافة؟!! وأين اختيار المسلمين له؟!! وأين الشورى؟!!

3- القول بالشورى في اختيار المؤسسة الحاكمة وفي إصدار الأحكام الاجتهادية يقتضي الشورى المطلقة ما لم يثبت العكس، ولما كانت الشورى المطلقة على الأفراد والمسائل مستحيلة، فتطور نظام الخلافة يزداد ويقوى كلما اتسع نطاق دائرة الشورى في الأفراد وزاد تخصصاً ودقة في المسائل.

وأؤكد على مسألة اختيار المؤسسة الحاكمة، وليس الحاكم؛ لما سبق من أن بناء هذه المؤسسة الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، وقام به الخلفاء الراشدون بالشورى مع الصحابة من بعده، تعجز عنه الأحزاب في عصرنا لضخامته وتعقيده، فما بالك بحصرها بالخليفة!!

وقد سبق وأن بينت أنها ”خلافة“ على منهاج النبوة وليست ”خليفة“ على منهاج النبوة.

* الخلافة بين الشعارات والمضمون:

إن تحقيق هذا النظام السياسي المتكامل والمتجانس هو الذي يفتح آفاق الامتثال الكامل الذي طلبه منا النص، ولا خلاف حينئذ إن سميتها خلافة أو غير ذلك، أو إن لم تسميها بالمرة، فلا مشاحة في الاصطلاح…

لكن الكارثة اليوم تكمن في تشبث الناس في الكلمة والمصطلح، وإعراضهم عن الجوهر والمضمون، كأولئك الذين يقتلون ويسفكون الدماء ويهلكون الحرث والنسل، ثم يسمونها خلافة !!!

فهلا طبقوا شرع الله على أنفسهم أولاً، وأنصفوا من ظلموهم من قبل، ثم تكلموا بعد ذلك عن الإسلام، عدا عن أن يتكلموا في الإيمان والخلافة والقضايا والمسائل العلمية والفقهية العميقة الأخرى، ولما يدخل الإيمان في قلوبهم.

فأساؤوا للإسلام عموماً، وأساؤوا لمفهوم الخلافة قبل أن يولد !!!

وعليه فليست الخلافة بتكفير وتفسيق جميع الهياكل السياسية والسياسيين -والتي لا تعدو كونها هياكل- وهدمها، ولكن بتطويرها على أسس إسلامية، وبتحويل تلك المؤسسات مؤسسة تلو الأخرى إلى نظام الخلافة، ثم بعد ذلك سمها بأي تسمية شئت، أو بدل تلك التسمية بـ ”قرار واحد“ هو أيسر ما يمكنك فعله حينئذ، بعد عقود من العمل على استكمال بناء نظام الخلافة الصحيح الذي أمرنا بها ربنا عز وجل ونبينا صلى الله عليه وسلم.

لا أن نركز جميع طاقاتنا وجهودنا على تغيير المصطلحات، ونفني كوادرنا التي تساعدنا في سبيل المصطلحات، ثم لا نخطو خطوة واحدة ولا نحرك ساكناً في بناء هذا النظام؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يتكلم في حديثه عن بناء ونظام عملي تطبيقي، ولا يتكلم عن مصطلحات وألفاظ!!!

يجب أن نكون منصفين إن قلنا:

إن الخلافة سقطت قبل سقوط هياكلها الخارجية، ثم أصبح الناس يبحثون عن الهياكل وغفلوا عن المضمون!!!

ولا نكون كاذبين إن قلنا بمقولة الإمام مالك: ”وَلا يُصْلِحُ آخرَ هذه الأمة إلا ما أصْلَحَ أَوَّلَهَا“. وصدق نبينا صلى الله عليه وسلم حين قال: ”إن الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا، كما بدأ“ [مسلم: كتاب الإيمان: باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا وأنه يأرز بين المسجدين (1/131)، برقم (146)]، وفي رواية سئل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ فقال: ”الذين يصلحون إذا فسد الناس“ [الطبراني في مشكل الآثار (1/298)، وفي الكبير (6/202)، وفي الصغير (1/104)، وفي الأوسط (7/278)، وزوائد المسند (4/37-74)].

فقد قال: ”سيعود“، ولم يقل: سينتهي. وقال: كما بدأ، أي بذات الجهد والعمل والدأب والزمن والكيفية في بناء المسلمين والأمة المؤهلة لتحمل المسؤولية، والتي هي أساس مشروع الخلافة القادم لا محالة؛ شئنا أم أبينا.

فالله الله في أنفسكم ودينكم وأمتكم عباد الله…

اكتب رداً